نص كلمة السيد الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة في الندوة الدولية حول موضوع: “الوقاية من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أثناء الإيقاف والاستماع والحراسة النظرية”
حضرات السيدات والسادة
يشرفني أن أتناول الكلمة في أشغال هذه الجلسة الافتتاحية نيابة عن السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، والذي حالت بينه وبين الحضور معنا، التزامات قاهرة كانت مقررة سلفاً. وقد كلفني أن أبلغكم تحياته ومتمنياته لأشغال هذه الدورة التكوينية أن تحقق الأهداف المرجوة منها.
وبهذه المناسبة يطيب لي أن أرحب بكم في أشغال هذه الدورة التكوينية المتخصصة في مجال مكافحة غسل الأموال، كما أغتنم هذه الفرصة لأتقدم بعبارات الشكر لكل من ساهم في التهييئ لها و المشاركة في تأطير محاورها، و أخص بالذكر المجلس الأعلى للسلطة القضائية و مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات UNODC ، ووزارة العدل والمفتشية العامة للإدارة الترابية والمفتشية العامة للمالية وبنك المغرب والهيئة الوطنية للمعلومات المالية، بالإضافة إلى السادة القضاة المشاركين في هذه الدورة.
وللإشارة، فإن هذه الدورة التكوينية تأتي في سياق دولي خاص يتميز بما خلفه وباء كوفيد 19 من تداعيات ليس على المستوى الصحي فحسب، بل حتى على المستوى الاقتصادي، حيث عرفت هذه الفترة مجموعة من التحويلات المالية استغلت بعض المنظمات الاجرامية هذه الاوضاع لضخ أموال في الاقتصاد النظامي وهي كلها مخاطر تنضاف إلى أخرى ، شكلت تحديا كبيرا أمام السلطات المكلفة بإنفاذ القانون في إطار مكافحتها لجرائم غسل الأموال، وهو ما أشارت إليه عدة تقارير دولية في مقدمتها تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات الصادر في 14 أبريل 2020، تحت عنوان: “غسل الأموال وكوفيد 19 الأرباح والخسائر” وأيضا تقرير مجموعة العمل المالي GAFI بتاريخ 20 ماي 2020 تحت عنوان “غسل الأموال وتمويل الإرهاب في فترة كوفيد 19: المخاطر والإجابات السياسية”.
حضرات السيدات و السادة
أمام هذا الوضع يظل القضاء من بين الجهات المعول عليها في مكافحة جميع مظاهر غسل الأموال، بالنظر لما يضطلع به من مهام على مستوى تسيير الأبحاث وكشف جرائم غسل الأموال وجمع الأدلة بشأنها، وتحريك المتابعات وتقديم الجناة للعدالة وتوقيع الجزاء المناسب في حقهم.
غير أن طبيعة جرائم غسل الأموال التي تجمع بين ما هو مالي و ما هو قانوني فضلا عن ارتباطها بمجموعة من المصادر غير المشروعة للأموال، يجعل هذه الجرائم جرائم مركبة و صعبة الكشف، الأمر الذي يتطلب تظافر جهود أجهزة الإشراف و الرقابة و أجهزة إنفاذ القانون و الأشخاص الخاضعين، لمحاصرة جريمة غسل الأموال في إطار من التكامل بين التدابير الوقائية و التدابير الزجرية.
وفي هذا الإطار، عملت بلادنا على إصدار القانون رقم 12.18 الذي أدخلت بموجبه تعديلات مهمة على القانون الجنائي والقانون رقم 43.05 المتعلق بمكافحة غسل الأموال، وذلك في إطار إلتزام بلادنا بالتفاعل الإيجابي مع ملاحظات مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي توصي الدول بتحديث المنظومة القانونية الداخلية وملاءمتها مع المنظومة القانونية الدولية، حيث جاء القانون المذكور بمستجدات مهمة للرفع من فعالية آليات الوقاية من غسل الأموال و مكافحته وتجويد آليات التنسيق و التعاون بين مختلف الهيئات والأجهزة، وفي نفس السياق صدر المرسوم رقم 2.21.670 بتاريخ 31 غشت 2021 الذي يحدد دوائر نفوذ المحاكم المختصة في جرائم غسل الأموال وذلك في إطار تنزيل مقتضيات المادة 38 من القانون السالف الذكر، التي تنص على تعميم الإختصاص القضائي في جرائم غسل الأموال على محاكم الدار البيضاء وفاس ومراكش إلى جانب محكمة الرباط، وذلك بهدف تخفيف الضغط على هذه الأخيرة التي كان لها اختصاص وطني وتسريع وثيرة البت في هذه القضايا.
ولابد من التأكيد على أن هذه التعديلات التشريعية المهمة سوف يكون لها دور فعال في تحسين وتيرة البحث في الملفات وتحقيق النجاعة القضائية في معالجة مختلف القضايا المرتبطة بغسل الأموال ومسايرة المجهودات المبذولة في مجال تقوية آليات البحث والتحري في هذا النوع من الجرائم خاصة مع إحداث فرق جهوية للشرطة القضائية متخصصة في الجرائم المالية والإقتصادية بكل من الرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش.
حضرات السيدات والسادة
إن تكوين وتأهيل العنصر البشري يعتبر ضرورة آنية لتعزيز المهارات المهنية بما يؤدي إلى تجويد العمل القضائي و تحقيق السرعة والفعالية في معالجة قضايا غسل الأموال لاسيما وأن بلادنا تخضع حاليا لعملية المتابعة المعززة من طرف فريق المراجعة التابع لمجموعة العمل المالي GAFI الذي وضع خطة عمل تتضمن مجموعة من الإجراءات و التوصيات التي يتعين على بلادنا الإلتزام بها للخروج من هذه العملية، والتي على رأسها تنظيم دورات تكوينية متخصصة لفائدة أجهزة إنفاذ القانون في المجالات المرتبطة بمكافحة غسل الأموال.
وهي توصيات تتطابق مع أهداف الاستراتيجية التي سطرتها رئاسة النيابة العامة في مجال تأهيل مواردها البشرية، فمهما كانت النصوص متطورة و مهما كانت الآليات المؤسساتية كافية فإنها لا يمكن أن تحقق الغاية المرجوة منها، ما لم تواكبها جهود ملموسة على مستوى تكوين و تأهيل العنصر البشري في ميدان العدالة الجنائية، ولا غرو أن اجتماع قضاة النيابة العامة إلى جانب زملائهم قضاة التحقيق والحكم المتخصصين في جرائم غسل الأموال في هذه الدورة التكوينية، ليعتبر فرصة مواتية لتبادل وجهات النظر والإطلاع على الممارسات الجيدة في مجال مكافحة هذا النوع من الإجرام بغية تطوير أدائنا الجماعي في مواجهة مختلف أوجه هذه الجرائم، والاستفادة من الخبرة الدولية حيث يساهم في هذه الدورة خبراء دوليين من مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات UNODC، ومن مؤسسات وهيئات وطنية راكموا تجربة طويلة في مجالات عملهم.
ختاما، لا يسعني إلا أن أجدد الشكر لجميع المؤطرين لهذه الدورة التكوينية والمشاركين في أشغالها ووسائل الإعلام والتراجمة.
كما أغتنم هذه الفرصة لأحث قضاة النيابة العامة، على مواصلة الجهود المبذولة في مجال مكافحة جرائم غسل الأموال بما يتناسب وأولويات السياسة الجنائية، وذلك عبر التفاعل مع التعليمات الواردة في الدوريات ذات الصلة بقضايا هذا الموضوع مع الحرص على تسريع وتيرة إنجاز الأبحاث والمساهمة في تجهيز الملفات المعروضة على القضاء وتفعيل إجراءات البحث الخاصة والتماس الحكم بعقوبات مناسبة قادرة على تحقيق الردع العام والخاص. راجيا من الله تعالى أن تكون هذه الندوة فرصة لتدارس كافة الإشكالات التي قد تواجهكم في الممارسة العملية واقتراح الحلول المناسبة لها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته