نص كلمة السيد الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة في الندوة الدولية حول موضوع: “الوقاية من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أثناء الإيقاف والاستماع والحراسة النظرية”
حضرات السيدات والسادة الأفاضل. كل باسمه وصفته
إنه لمن دواعي فخري وسروري أن أشارك معكم في هذا الملتقى الدولي الهام حول قضايا الاستثمار ورهانات التنمية وما لذلك من أثر وأبعاد قوية للنهوض باقتصاديات الدول المشاركة الذي تحتضنه مدينة الداخلة، المدينة السياحية بامتياز والتي تتميز بجمالها وهدوئها مما يجعلها قبلة عالمية بالنظر لما تتوفر عليه من مؤهلات طبيعية وموقع جغرافي متميز أصبحت معه محط جذب اقتصادي لما توفره من ظروف ملائمة للاستثمار.
وهي مناسبة أتوجه فيها بالشكر الجزيل للسيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عن حرصه على تنظيم هذا الملتقى الذي يعتبر مبادرة نوعية سوف تتطرق لمواضيع ذات راهنية كبرى، وهو الأمر الذي يعكسه الشعار الذي تنعقد تحت رايته أشغال هذا المؤتمر الدولي حول موضوع الاستثمار ورهانات التنمية.
وهي مناسبة أيضا لأعبر عن سعادتي للقاء ضيوفنا الكرام بمجلس الوحدة الاقتصادية العربية والمحكمة العربية للتحكيم وباقي الفعاليات المشاركة في المؤتمر والتواصل معهم حول مجال حيوي يتطلب منا جميعا تناول مختلف محاوره بنوع من الرؤى الموحدة، واستشراف الآفاق المستقبلية لكل ما يخدم التنمية الاقتصادية، ويعزز من فرص الاستثمار.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
إن انعقاد هذا المؤتمر يأتي في ظرفية خاصة يشهد فيها العالم اليوم تحولات اقتصادية عميقة نتيجة للعولمة وللانفتاح الاقتصادي، وهو ما نتج عنه احتدام المنافسة بين المقاولات واشتدادها على الموارد والأسواق وظهور أنماط جديدة من السلوك الاقتصادي ليس فقط بين المقاولات ولكن أيضا بين الدول والتي أصبحت تسعى نحو خلق تكتلات اقتصادية وأسواق مشتركة تسهل على المقاولات الوطنية إيجاد الموارد المناسبة ومجالات لتصريف منتوجاتها في إطار رؤية مشتركة؛ خصوصا وأن ندرة الموارد ولاسيما الطاقية منها وعدم استقرار الأسواق وتأثير بعض العوامل الظرفية كجائحة كورونا تشكل تحديا كبيرا بالنسبة للمقاولة من شأنه التأثير على كفاءتها الاقتصادية، وهو ما يفرض على الحكومات اتباع سياسات اقتصادية حازمة والتنسيق في ما بينها لتنظيم الممارسة الاقتصادية وحماية أسواقها.
والمغرب، باعتبار قربه الجغرافي من الأسواق الاوروبية وامتداده العربي والافريقي، ونهجه لسياسة اقتصادية منفتحة وتعدد شركائه يحظى بوضعية خاصة تؤهله لأن يكون رائدا في المجال الاقتصادي وهو ما يفسر تعدد المبادرات التـي تقوم بها الدولة لتحفيز الاستثمار ودعم المقاولة التي تشكل عصب الاقتصاد، بما يحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.
وفي هذا الإطار تم اتخاذ عدة تدابير تهدف إلى إصلاح الإطار القانوني والمؤسساتي للاستثمار وتشجيع المبادرة الحرة للمستثمرين المغاربة والأجانب حيث تم العمل على تحسين فرص جاذبية الاستثمار من خلال اتخاذ إجراءات اقتصادية وقانونية ومؤسساتية، حيث أقدمت بلادنا على تحديث المنظومة القانونية للأعمال وتأهيلها لمواكبة التطورات والتحولات الوطنية والدولية التي تعرفها العلاقات التجارية، وبادرت إلى تبني جملة من التوجهات انعكست في العديد من القوانين كقانون الشركات وقانون مؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، وقانون البورصة وقانون مجلس القيم المنقولة والقانون المنظم للمجموعات ذات النفع الاقتصادي، علاوة على مدونة التجارة.
ولقد مكنت هذه الإجراءات والمجهودات المبذولة من جعل بلادنا تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة محطة جذب اقتصادي واستثماري بسبب ما توفره من ظروف آمنة ومشجعة على الاستثمار وفي هذا السياق أكد صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله في خطابه السامي بمناسبة الذكرى 17 لعيد العرش المجيد بتاريخ 30 يوليوز 2016 على أنه (ورغم الإكراهات المرتبطة أحيانا بالسياق الدولي، وأحيانا أخرى بالاقتصاد الوطني، فإن المغرب والحمد لله في تقدم مستمر، دون نفط ولا غاز، وإنما بسواعد وعمل أبنائه).
كما قال جلالته أيضا في نفس الخطاب (وخير دليل على ذلك، تزايد عدد الشركات الدولية … ) موضحاً جلالته أيضاً أن ( هذه الشركات لا يمكن أن تخاطر بأموالها دون أن تتأكد من أنها تضعها في المكان الصحيح، بل إنها تعرف وتقدر الأمن والاستقرار الذي ينعم به المغرب، والآفاق المفتوحة أمام استثماراتها)، انتهى النطق الملكي السامي.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
لا شك في أن القضاء يعتبر رافعة أساسية في كل مخطط تنموي يروم دعم الاستثمار وتحفيز المقاولات، فلا يمكن الحديث عن جلب الاستثمار دون الحديث عن دور القضاء في حمايته، فتوفير البيئة القضائية الآمنة شرط لبعث الثقة لدى المستثمر وتبديد مخاوفه من عدم قدرته على الدفاع عن مصالحه الاقتصادية، بحيث يعتبر مقياسا حقيقيا لنجاح الخطط التنموية للدولة.
وفي هذا السياق، يعتبر تقرير النموذج التنموي الجديد الذي أمر جلالة الملك محمد السادس أيده الله ونصره بتنزيله إطارا مرجعيا مناسبا لتحقيق التوازن بين شروط الإقلاع الاقتصادي والتنمية الاجتماعية من خلال رؤية واضحة ومتكاملة تضع المواطن في صلب الاهتمامات اليومية.
إن تحقيق عدالة منصفة وسريعة، عدالة تضمن سيادة القانون مطلب أساسي لكل مستثمر يتعين على الجميع التعبئة لبلوغه؛ وهو ما فتئ جلالة الملك محمد نصره الله وأيده يلح عليه في خطبه الشريفة، حيث قال جلالته في كلمة وجهت للمشاركين بمناسبة انعقاد الدورة الثانية للمؤتمر الدولي للعدالة الذي عقد بمدينة مراكش يوم 21 أكتوبر 2019 والتي جاء فيها: (وإذ نرحب بكم ضيوفا كراما على أرض المملكة المغربية، فإننا نشيد باختياركم لهذه الدورة موضوع “العدالة والاستثمار التحديات والرهانات” لما يجسده هذا الموضوع من وعي بأهمية الاستثمار كرافعة للتنمية، وبالدور الحاسم الذي تضطلع به العدالة في الدفع بالنمو الاقتصادي، عبر تعزيز دولة الحق والقانون، وضمان الأمن القانوني والقضائي اللازم لتحقيق التنمية الشاملة)، انتهى النطق الملكي.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
تعتبر تجربة المحاكم المتخصصة بالمملكة المغربية، لاسيما في مجال القضاء التجاري تجربة رائدة في هذا المجال حيث أسست لتراكم قضائي خصب من خلال اجتهادات قضائية مهمة في مجال الاستثمار تنم عن إدراك قضاتنا المتميز للواقع الاقتصادي كما شكلت إطارا مرجعيا لتطوير القاعدة القانونية في المادة التجارية.
إن نجاح التجربة المغربية في مجال القضاء المتخصص لاسيما في مجال المنازعات التجارية لم يكن ليتأتى لولا المساهمة الفعالة لكافة الفاعلين في مجال العدالة، ولاسيما السادة المحامون باعتبارهم جزء لا يتجزأ من أسرة القضاء، وفاعلا محوريا وهوما يتعين التنويه به، كما يتعين التنويه كذلك بالدور الهام الذي يضطلع به المحكمون والوسطاء وكذا مراكز التحكيم والوساطة باعتبارها من الاليات البديلة لفض المنازعات التجارية التي أصبحت تحظى بثقة متزايدة للمستثمرين والفاعلين الاقتصاديين.
فالاستثمار يحتاج إلى مناخ يجلبه ولا ينفره، ولا شك أن تحقيق الأمن القانوني والقضائي يساهم إيجابيا في ذلك، فالمستثمر مهما كانت الإغراءات التشجيعية المنصوص عليها في التشريعات والأنظمة فإنه لا يغامر إلا إذا تحقق من وجود قضاء مستقل وفاعل يترجم النصوص بما يحقق العدل والمساواة. كما أنه يساهم في ضمان الأمن القانوني والقضائي للنماء الاقتصادي والأمن القانوني والقضائي للاستثمار، الذي تعمل بلادنا جاهدة لتحقيقه، حيث يعتبر القضاء؛ آلية أساسية لتأمين الاستثمار وتأمين المناخ الملائم للمجازفة برأس المال.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
إن وعي رئاسة النيابة عامة بأهمية الاستثمار ودور القضاء في تحقيق التنمية الاقتصادية، وبمسؤولياتنا في الحفاظ على النظام العام الاقتصادي وتحقيق الأمن القضائي، جعلتنا نولي أهمية خاصة لهذا الموضوع، باعتبار النيابة العامة دعامة أساسية لحفظ النظام العام الاقتصادي وتشجيع الاستثمار والمساهمة في الرفع من النمو الاقتصادي وضمان الأمن القانوني والقضائي في هذا المجال لتحقيق التنمية الشاملة، وهو ما يتضح من خلال الصلاحيات العديدة التي أسندتها مجموعة من النصوص القانونية للنيابة العامة في ما يخص حماية الأسواق الاقتصادية وضمان المنافسة الشريفة بين الفاعلين الاقتصاديين وكذا المساهمة في إنقاذ المقاولات التي تعاني من صعوبات اقتصادية أو مالية.
وتفعيلا لهذا الدور الجديد، فإن رئاسة النيابة العامة قد أصدرت عدة دوريات تم توجيهها للنيابة العامة بالمحاكم التجارية تطلب منها فيها:
-الحرص على النهوض بدور النيابة العامة الوقائي في صعوبات المقاولة من خلال تفعيل الآليات القانونية المخولة قانونا للنيابة العامة في هذا المجال؛
-تعزيز التنسيق بين النيابة العامة لدى المحاكم العادية والنيابة العامة لدى المحاكم التجارية من أجل توفير فرص الحماية الناجعة للفاعل الاقتصادي وتقوية دورهما في حماية النظام العام الاقتصادي؛
-استحضار أثر المنازعات التجارية على الأمن الاقتصادي والاجتماعي بمناسبة إعمال سلطة الملاءمة في زجر الخروقات المالية والاقتصادية، وذلك بتفعيل النصوص القانونية الزجرية ذات الصلة بقانون الأعمال؛
-تبني تدبير ناجع لأداء النيابة العامة عن طريق تقليص الزمن القضائي اعتبارا لخصوصية المنازعات التجارية وذلك من خلال احترام الآجال المنصوص عليها قانونا.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
إن انعقاد هذا المؤتمر في هذا اليوم يصادف مناسبة دولية لها مكانة خاصة في أعماقنا وهي اليوم العالمي للمرأة. وبهذه المناسبة لابد لنا وأن نشيد بالدور الريادي الذي تلعبه المرأة العربية والمغربية في المجال الاقتصادي، ليس فقط كمعيلات للأسر، بل أيضا كنساء مقاولات وفاعلات اقتصاديات أثبتن جدارتهن واقتدارهن في تدبير المقاولات، ويمتلكن ما يكفي من الكفاءات للإسهام في التنمية الاقتصادية.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن تكريس دور المرأة في تدبير المقاولات أضحى توجها عالميا تسعى كل الدول إلى تنزيله، لما له من آثار إيجابية على ترشيد تدبير المقاولات وتحسين أدائها.
وفي هذا الإطار، تعززت الترسانة القانونية المغربية بصدور القانون رقم 19.20 بتغيير القانون رقم 17.95 المتعلق بشركات المساهمة والمنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 22-07-2021، والذي يهدف إلى ضمان تمثيلية متوازنة بين المرأة والرجل في أجهزة التسيير والحكامة بشركات المساهمة التي تدعو الجمهور إلى الاكتتاب فيها، وفق جدول زمني محدد.
وبهذه المناسبة كذلك، لابد وأن أشيد بدور المرأة في مجال العدالة، ولاسيما القضاء التجاري والذي أبانت فيه المرأة المغربية عن حنكة كبيرة سواء كقاضية أو إطار من أطر كتابة الضبط أو محامية أو مساعدة من مساعدي العدالة، وتقلدت مسؤوليات قضائية بالمحاكم المغربية.
وفي ختام هذه الكلمة لا يسعني ونحن في صلب هذا الحدث إلا أن أجدد شكري الخالص للسيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على دعوته لكافة السيدات والسادة المشاركين الكرام لحضور أشغال هذا المؤتمر الذي نتمنى أن يصبح تقليداً منتظماً متمنيا أن تكلل أشغاله بالنجاح، شاكرا لكافة ضيوفنا تشريفهم لنا بالحضور ومساهمتهم العلمية والفكرية في أشغاله والذي نطمح أن يكون فضاء للتفكير وتبادل الرؤى للبحث عن فضاءات مشتركة يكون فيها للعدالة دور ريادي ومحفز على الاستثمار والتنمية. والشكر موصول كذلك لكل من ساهم في تنظيم هذا المؤتمر من قريب أو بعيد.
وفقنا الله لما فيه خير بلداننا العربية لتحقيق ما تستحقه من نماء وازدهار وتنمية لشعوبها. كما أسأل الله تعالى أن يوفق قضاءنا المغربي وكل القطاعات المعنية بخدمة الوطن وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة وخلق الفضاء والمناخ الملائمين للاستثمار والنمو الاقتصادي والاجتماعي لبلادنا تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس دام عزه ونصره وأقر عينه بولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن، وشد أزره بصنوه الرشيد صاحب السمو الملكي مولاي الرشيد، وكافة أسرته الشريفة، إنه سميع الدعاء وبالإجابة جدير.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.