نص كلمة السيد الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة في الندوة الدولية حول موضوع: “الوقاية من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أثناء الإيقاف والاستماع والحراسة النظرية” :
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
-السيدة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛
-السيد والي الأمن، المدير المركزي للشرطة القضائية بالمديرية العامة للأمن الوطني؛
-السيدة ممثلة الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
-السيدة ممثلة وزير العدل؛
-السيد السفير المتجول المكلف بحقوق الإنسان؛
-السيدات والسادة المسؤولون الأمنيون وممثلو القطاعات الحكومية؛
-السيدات والسادة ممثلو الهيئات والمؤسسات الوطنية؛
-السيدات والسادة الخبراء ممثلو الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية؛
-حضرات السيدات والسادة كل باسمه وصفته والتقدير الواجب لشخصه.
إنه لشرف كبير أن أشارك معكم اليوم في افتتاح أشغال هذه الندوة الدولية الهامة، وهي مناسبة أود أن أتقدم فيها للسيد المدير العام للأمن الوطني وإدارة مراقبة التراب الوطني بوافر عبارات الشكر على دعوته الكريمة لحضور الجلسة الافتتاحية لهذه الندوة التي يتم تنظيمها بشراكة وتعاون بين المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمديرية العامة للأمن الوطني حول موضوع ذي راهنية كبرى ألا وهو “المعايير والممارسات الرامية إلى الوقاية من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أثناء الإيقاف والاستماع والحراسة النظرية”.
ويكتسي انعقاد هذه الندوة أهمية بالغة بالنظر للتحولات الإيجابية التي تعرفها بلادنا والتي تحققت في ظلها مجموعة من المكتسبات في مجال حماية حقوق الإنسان والنهوض بها بشكل عام، وفي مجال حماية الحق في السلامة الجسدية والوقاية من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة بشكل خاص.
كما تعكس هذه الندوة أيضا الدينامية الجديدة التي تعرفها المؤسسة الأمنية في العديد من المجالات ولاسيما انفتاحها على محيطها الخارجي وانخراطها في برامج التكوين ذات الصلة بمجال حقوق الإنسان.
حضرات السيدات والسادة؛
تفعيلاً من بلادنا لالتزاماتها الدولية، فقد عملت على مراكمة مجموعة من المكتسبات التي حققتها في مجال حماية حقوق الإنسان، والنهوض بها والتي توجت باعتماد دستور 2011، الذي أولى مكانة متميزة لحقوق الإنسان بالنظر لما تضمنه من مقتضيات هامة، اعتبرت بمثابة ميثاق للحقوق والحريات الأساسية وأكدت على التزام المملكة المغربية بحقوق الإنسان وتشبثها بها كما هو متعارف عليها عالميا، وكرست الضمانات الأساسية في مجال حماية هذه الحقوق والنهوض بها من خلال تخصيصه باباً كاملاً (الباب الثاني) للحريات والحقوق الأساسية، حيث جعلت من مناهضة التعذيب مقتضى دستوريا نص عليه الفصل 22 من الدستور، تم بمقتضاه حظر المساس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف ومن قبل أي جهة كانت خاصة أو عامة، بالإضافة إلى حظر معاملة الغير تحت أي ذريعة معاملة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية، ومنع ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي كان، وتجريم هذه الأفعال.
وتكريساً لالتزامات المملكة المغربية بموجب الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، عملت بلادنا على تعزيز انخراطها في المنظومة الدولية لهذه الحقوق والالتزام بمقتضيات القانون الدولي في هذا المجال مما انعكس إيجابا على تطور الممارسة الاتفاقية لبلادنا من حيث استكمال الانخراط في اتفاقيات حقوق الإنسان الأساسية وتعزيز التفاعل مع الآليات والهيئات الدولية الموكول إليها مراقبة إعمال الدول لمقتضيات تلك الاتفاقيات، وتقديم تقاريرها الوطنية أمام لجان الرصد المحدثة بمقتضى هذه الاتفاقيات، وتفعيل التوصيات الصادرة عنها والتفاعل مع آليات المساطر الخاصة التابعة للأمم المتحدة.
وفي هذا السياق اعترفت بلادنا بصلاحية لجنة مناهضة التعذيب لتلقي البلاغات الفردية وتلى ذلك الانضمام إلى البرتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب سنة 2014 الذي ترتب عنه إحداث الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب لدى المجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2018، مع ما رافق ذلك من انفتاح المملكة على آليات الإجراءات الخاصة ذات الصلة بموضوع التعذيب وتمكينها من زيارة بلادنا ومن بينها المقرر الخاص حول موضوع التعذيب سنة 2012 وفريق العمل المعني بالاعتقال التعسفي سنة 2013 واللجنة الفرعية للوقاية من التعذيب المنشأة بموجب البروتوكول الاختياري المحلق باتفاقية مناهضة التعذيب سنة 2017، وغيرها من الآليات، وهي كلها مجهودات وخطوات تعكس الإرادة الحقيقية للدولة في مناهضة كافة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويكفي للتأكيد على ذلك، الإشارة إلى أن المملكة المغربية كانت من بين الدول الخمس (الشيلي والدنمارك وغانا وإندونسيا) التي أطلقت المبادرة العالمية للمصادقة على اتفاقية مناهضة التعذيب في شهر مارس 2014، هذا فضلاً عن الإصلاحات المؤسساتية والتشريعية التي تروم تعزيز المنظومة الحمائية لحقوق الإنسان في بعدها الجنائي الموضوعي والإجرائي.
حضرات السيدات والسادة؛
إن التعذيب ليس جريمة كسائر الجرائم، بل هو عمل وحشي يجرد الإنسان من آدميته بالنظر لما يمثله من مهانة واستباحة لكرامة البشر، وهو ما دفع المنتظم الدولي منذ سنوات إلى حظره وتجريمه ومحاسبة مرتكبيه، واعتماد العديد من الآليات في مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي شكل صرخة من شعوب الأرض نحو الضمير الإنساني من أجل التصدي الجماعي لكل مظاهر التعذيب.
وتفعيلا للدور الذي يضطلع به القضاء في مجال حماية الحقوق والحريات، بمقتضى المادة 117 من الدستور، وتفعيلاً للإرادة الملكية والتوجيهات التي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس نصره الله يؤكد عليها في خطبه السامية بشأن حماية الحقوق والحريات لاسيما مناهضة التعذيب حيث جاء في نص الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله إلى المشاركين في أشغال الدورة الثانية للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان بمراكش بتاريخ 27 نونبر 2014 ما نصه: (ووفاء منها بتعهداتها المدرجة في ميثاقها الأساسي، فإن المملكة المغربية ما فتئت تعمل على تعزيز ممارستها المعيارية.
فبعد انخراطها في الآليات الأساسية لحقوق الإنسان، أقدمت المملكة على الرفع التدريجي للتحفظات التي كانت قد قدمتها خلال التصديق على هذه الآليات.
واليوم، فإن المغرب يوطد هذا الاختيار، الذي لا رجعة فيه، لفائدة حماية حقوق الإنسان والنهوض بها. وفي هذا الصدد، فإننا قمنا في بداية هذا الأسبوع، بتقديم أدوات تصديق المملكة المغربية على البروتوكول الاختياري للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة، وذلك بهدف إحداث آلية وطنية للوقاية، في غضون الأشهر القادمة. وهكذا سيصبح المغرب ضمن الثلاثين بلداً التي تتوفر على آلية من هذا القبيل) انتهى النطق الملكي السامي.
وتفعيلاً لكل ما ذكر، فقد انخرطت رئاسة النيابة العامة منذ سنوات ومن خلالها كافة قضاة النيابة العامة في المجهودات الوطنية الرامية إلى محاربة التعذيب والوقاية منه والسهر على إنفاذ القانون بكل صرامة من أجل ضمان أمن وسلامة الأشخاص وحماية حقوقهم وحرياتهم.
ويبرز الدور المتنامي الذي يضطلع به قضاة النيابة العامة في هذا المجال على أكثر من صعيد، ويتجلى ذلك من خلال ما يلي:
-أن مناهضة التعذيب تعتبر من بين أولويات السياسة الجنائية التي يسهر قضاة النيابة العامة على تنفيذها، بحيث يعد هذا الموضوع من بين أحد أهم المحاور الاستراتيجية لعمل النيابة العامة التي تضمنها المنشور الأول بعد استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية في أكتوبر 2017، وهو الأمر الذي انعكس على التقارير السنوية لرئاسة النيابة العامة والتي تخصص سنويا محوراً خاصا للمعالجة القضائية لقضايا التعذيب.
• قيام رئاسة النيابة العامة، بمناسبة تعيين أعضاء الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، بتوجيه دوريتين: الأولى تحت عدد 40/ ر ن ع بتاريخ 01/10/2019، والثانية تحت عدد 44/ ر ن ع بتاريخ 16/10/2019، إلى المسؤولين القضائيين عن النيابات العامة لحثهم على التفاعل الإيجابي مع الآلية المذكورة، كما انخرطت رئاسة النيابة العامة في برنامج دعم الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب الذي يشرف عليه المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وذلك من خلال المساهمة في إعداد بعض الدلائل التوجيهية المرتبطة بعمل الآلية الوطنية لمناهضة التعذيب وحقوق السجناء، والتي لا زال العمل مستمرا بشأنها.
• حرص النيابة العامة على التنفيذ الصارم للمقتضيات القانونية المتعلقة بمكافحة التعذيب والوقاية منه، من خلال القيام بزيارات تفقدية لأماكن الحرمان من الحرية، والتثبت من تطبيق المقتضيات القانونية المتعلقة بالفحص الطبي للأشخاص المقدمين إليها بعد الحراسة النظرية، تلقائيا أو بناء على طلب، والبت في جميع الشكايات المتعلقة بالتعذيب المعروضة عليها، تفعيلا لمقتضيات المادة 12 من اتفاقية مناهضة التعذيب.
وفي هذا الإطار، قام قضاة النيابة العامة خلال سنة 2021 بــ 24626 زيارة لأماكن الوضع تحت الحراسة النظرية أي بنسبة تشكل 128% من مجموع الزيارات المفترضة قانونيا. كما أصدرت النيابات العامة 1685 أمرا بإجراء فحص طبي على الأشخاص المقدمين أمامها خلال الفترة الممتدة من سنة 2017 إلى غاية متم شهر غشت من سنة 2022.
وللإشارة فإن هذه الفحوصات تندرج ضمن الضمانات القانونية التي خولها قانون المسطرة الجنائية للشخص المشتبه فيه، لاسيما المواد 73، 74 و 134 التي ألزمت كلا من وكيل الملك والوكيل العام للملك وقاضي التحقيق كل حسب اختصاصه بإجراء فحص طبي إذا ادعى المشتبه فيه تعرضه للعنف أثناء فترة الحراسة النظرية أو إذا طلب دفاعه ذلك.
كما يمكنهم بصفة تلقائية إخضاع المشتبه فيه للفحص الطبي في حالة ما إذا عاين القاضي على المشتبه فيه آثاراً تبرر ذلك -علماً أن بعض هذه الآثار قد تكون في بعض الأحيان قديمة نتيجة شجار مع أحد الأشخاص- وذلك بهدف التأكد من طبيعتها والوقت الذي ارتكبت فيه بغرض ترتيب الآثار القانونية على ضوء ذلك.
وفي إطار الأبحاث التي تقوم بها النيابة العامة بخصوص ادعاءات التعذيب فقد لوحظ أن عدد الشكايات المقدمة أمامها قد عرف انخفاضا خلال السنوات الثلاث الأخيرة وذلك بفضل المجهودات التي تقوم بها مختلف الأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون في مجال الوقاية من التعذيب، حيث سجلت خلال سنة 2020، 21 شكاية تتعلق بادعاءات التعذيب، ونفس العدد تم تسجيله خلال سنة 2021 في حين انخفض هذا العدد إلى 07 شكايات فقط خلال الفترة الممتدة من فاتح يناير 2022 إلى غاية متم شهر غشت من نفس السنة، تم فتح أبحاث قضائية بشأنها واتخاذ القرارات الملائمة على ضوء ذلك.
• كما تم إعداد دليل استرشادي في مجال مناهضة التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة موجه لقضاة النيابة العامة وعموم قضاة المملكة ولمختلف الفاعلين في مجال العدالة، يهدف إلى التعريف بالمعايير والآليات الدولية المتعلقة بمكافحة التعذيب، والإجراءات المتبعة للبحث في ادعاءات التعذيب وقد تمت ترجمته للغة الفرنسية والإنجليزية.
ويشكل هذا الدليل آلية من شأنها تمكين قضاة المملكة من الاطلاع على أهم المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بالموضوع، وتملكهم للمعايير الدولية ذات الصلة بإجراءات البحث والتحقيق والمحاكمة حين البت في القضايا المتعلقة بادعاء التعذيب.
ووعيا من رئاسة النيابة العامة بأهمية تكوين القضاة في مجال حقوق الإنسان، ولاسيما ما يتصل بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أوالمهينة، فقد بادرت رئاسة النيابة العامة بشراكة مع مجلس أوروبا إلى وضع برنامج غير مسبوق في دجنبر 2020 يروم تعزيز قدرات قضاة النيابة العامة في مجال حقوق الإنسان، كما انخرط المجلس الأعلى للسلطة القضائية في هذه العملية خلال سنة 2021، حيث تم تعميم هذا التكوين أيضاً على قضاة الحكم، وتستهدف المكونات الأساسية لهذا البرنامج الذي لازال تنفيذه جاريا تكوين جميع قضاة المملكة في مواضيع تتعلق بالمعايير الدولية المتعلقة بتجريم التعذيب ومنعه والوقاية منه وبالاتفاقيات والهيئات الدولية ذات الصلة بالموضوع.
ولقد استفاد من هذا البرنامج، إلى حدود اليوم حوالي 210 مسؤولا قضائيا و719 قاضية وقاض من قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة، إضافة إلى 123 مستفيداً من أطر ومسؤولي رئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فضلاً عن 108 مستفيدة ومستفيداً يمثلون مؤسسات وطنية أخرى مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المديرية العامة للأمن الوطني، قيادة الدرك الملكي، المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج.
حضرات السيدات والسادة؛
إن المجهودات التي تبذلها بلادنا في مجال حقوق الإنسان تعبر بشكل ملموس وواقعي عن الدينامية الكبيرة للمملكة المغربية وتفاعلها الإيجابي مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان سواء على مستوى التكريس الدستوري أو القانوني أو على مستوى التفعيل، وهي نفس الدينامية والروح التي تعمل السلطة القضائية على تكريسها على مستوى الممارسة القضائية بوصفها ضامنة وحامية للحقوق والحريات وفقا لمقتضيات الفصل 117 من الدستور.
ختاما لا يسعني إلا أن أجدد شكري للسيد المدير العام للأمن الوطني، المدير العام لمراقبة التراب الوطني والسيدة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان على هذه المبادرة النبيلة، ولكل من ساهم في إعداد وتنظيم هذا اللقاء، والذي لا يمكن إلا أن نشيد به ونثمنه لما لذلك من آثار جد إيجابية في تعزيز قدرات كل الأشخاص المكلفين بإنفاذ القانون في هذا المجال، ولكونه يندرج ضمن المجهودات الوطنية التي تروم الاستفادة من التراكم الحاصل في بلادنا في هذا الإطار وترسيخ تملك المعايير الدولية ذات الصلة بالحماية ضد التعذيب والوقاية منه والاستفادة من التجارب والممارسات الفضلى في هذا الشأن انسجاما وتماشيا مع التوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، وأقر عينه بولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشد أزره بصـنوه الرشيد الأمير مولاي رشيد، إنه سميع مجيب للدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.